علا
الوجوم وجه زوجتي عندما فتحت لي الباب ظهر اليوم، فسألتها:ماذا هناك؟
قالت
بصوت مضطرب: الولد .. أسرعت إلى غرفة أطفالي الثلاثة منزعجاً فوجدته فوق السرير
منزوياً في انكسار وفي عينيه بقايا دموع.
احتضنتُه
وكررتُ سؤالي لزوجتي .. ماذا حدث؟
لم
تجبْني .. وضعتُ يدي على جبهته .. لم يكن هناك ما يوحي بأنه مريض ..
سألتها
ثانية: ماذا حدث؟!
أصرَّت
على الصمت .. فأدركتُ أنها لا تريد أن تتحدث أمام طفلنا .. فأومأت إليها أن تذهب
لغرفتنا وتبعتـُها إلى هناك بعد أن ربّتّ على ظهر صغيري.
عندما
بدأت تروي لي ما حدث هذا الصباح بدأت أدرك .. فالقصة لها بداية لا تعرفها هي ..
فقد شهدت فقط نصفها الثاني .. فرُحْتُ أروي لها شطر القصة الأول كي تفهم ما يحدث.
القصة
باختصار أنني أعشق النوم بين أطفالي الثلاثة أسماء وفاطمة وهذا الصبي الصغير
أسامة .
وكثيراً ما
كنتُ أتسلل من غرفة نومي لأحشر نفسي بقامتي الطويلة في سريرهم الصغير .. كانوا
يسعدون بذلك وكنتُ في الحقيقة أكثر سعادة منهم به.
بالطبع كان
لابد من حكايات أسلّي بها صغاري .. كانت أسماء بنت الثمانية أعوام تطالبني دائماً
بأن أحكي لها قصة سيدنا يوسف.
وأما فاطمة
فكانت تحب سماع قصة موسي وفرعون أو الرجل الطيب والرجل الشرير كما كان يحلو لها أن
تسميها.
وأما
الصغير فكان يستمع دون اعتراض لأية حكاية أحكيها، ولا يطلب حكاية بعينها.
ذات ليلة
سألت سؤالي المعتاد: سيدنا يوسف أم سيدنا موسي؟ صاحت كل بنت تطالب بالحكاية التي
تحبها .. ففوجئت به هو يصيح مقاطعاً الجميع:
عمر بن
الخطاب
تعجبت من
هذا الطلب الغريب .. فأنا لم أقصًّ عليهم من قبل أية قصة عن سيدنا عمر .. بل
ربما لم أذكر أمامهم قط اسم عمر بن الخطاب .. فكيف عرف به .. وكيف يطالب بقصته؟؟
لم أشأ أن
أرد طلبه فحكيت له حكاية ارتجلتها بسرعة عن عمر رضي الله عنه.
حدثتُه عن
خروجه بالليل يتحسس أحوال رعيته وعن سماعه بكاء الصِبية الذين كانت أمهم تضع على
النار قِدْراً به ماء وحصى وتوهمهم أن به طعاماً سينضج بعد قليل ليسدُّوا به جوعهم
.. وهي في الحقيقة تخدعهم حتى يتعبوا ويناموا، فليس لديها ما تطعمهم إياه !!
حدثتُه
كيف بكى عمر عندما عرف القصة، وخرج من عند المرأة مسرعاً .. ثم عاد وقد حمل جوال
الدقيق على ظهره وطبخ بنفسه طعاماً للصبية .. فما تركهم حتى شبعوا وناموا !!
نام صغيري
ليلتها سعيداً بهذه الحكاية .. وفي الليلة التالية فوجئت بصغيري يعلن للجميع أنه
سيحكي لنا قصة عمر بن الخطاب .. قلت له لأثير حَمِيـَّتَه: هل تستطيع؟ أجاب في
تحدٍ : نعم !!
اندهشت
جداً وأنا أسمعه يحكيها كما لو كان جهاز تسجيل يعيد ما قلته بالحرف !!
في ليلة
أخرى أحب أن يسمع حكايات ثانية لعمر بن الخطاب..
حكيت له
حكاية ابن القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص والي مصر .. وكيف أن عمر وضع السوط
في يد ابن القبطي وجعله يضرب ابن الحاكم قصاصاً !! بل وطلب من ابن القبطي أن يضرب
صلعة عمرو بن العاص .. الحاكم نفسه ! لأن ابنه لم يتطاول على خلق الله إلا بسلطان
أبيه !! لولا أن القبطي استحى أن يفعل.
في
الليلة التالية أعاد على مسامعي حكايتي .. كان قد حفظها هي الأخرى، وهكذا أمضينا
قرابة شهر .. في ليلة أحكي له قصة عن عدل عمر، أو عن تقواه، أو عن قوته في الحق ..
فيعيدها لي ولأختيه في الليلة التالية.
في إحدى الليالي
فاجأني بسؤال غريب: هل مات عمر بن الخطاب؟
كدت أن أقول له: نعم
مات ..
لكني صمتُّ في اللحظة
الأخيرة فقد أدركتُ مدى تعلقه بشخص عمر بن الخطاب، وأنه ربما يُصدم صدمة شديدة لو
علم أنه قد مات .. فتهربتُ من الإجابة.
في الليلة التالية
سألني ذات السؤال وتهربتُ أيضاً من الإجابة.
بعدها بدأت أتهرّب من
النوم مع أطفالي كي لا يحاصرني صغيري بالسؤال.
صباح اليوم
خرج مع والدته .. في الطريق لقي امرأة وعلى كتفها صبي يبكي، كانت تسأل الناس شيئاً
تطعم به صغيرها، فوجئ الجميع بصغيري يصيح بها:
لا تحزني
سيأتي عمر بن الخطاب بطعام لك ولصغيرك
جذبته أمه
بعد أن دسَّت في يد المرأة بعض النقود.
بعد خطوات
قليلة وجد شاباً مفتول العضلات يعتدي على رجل ضعيف بالضرب بطريقة وحشية .. صاح
صغيري في الناس كي يحضروا عمر بن الخطاب ليمنع هذا الظلم!!
فوجئت أمه
بكل من في الطريق يلتفت نحوها ونحو صغيرها، فقررت أن تعود إلى المنزل بسرعة.. لكن
قبل أن تصل إلى المنزل اعترض طريقها شحّاذ رث الهيئة وطلب منها مساعدة .. دست في
يده هو الآخر بعض النقود وأسرعت نحو باب المنزل لكنها لم تكد تصعد درجتين من
السلَّم حتى استوقفتها زوجة البواب لتخبرها بأن زوجها مريض في المستشفي وطلبت
المساعدة.
هنا صاح
الصغير بأمه: هل مات عمر بن الخطاب ؟؟!
عندما
دخلت البيت كان صوت التلفاز عالياً، وكان مذيع الأخبار يروي ما فعله اليهود بالقدس
ومحاصرتهم للمسجد الأقصى ومنع أهله من الصلاة فيه.
أسرع
صغيري نحو التلفاز وراح يحملق في صورة الجنود المدججين بالسلاح
وهم
يضربون المصلين بقسوة بالهراوات والرصاص المطاطي .. التفت نحو أمه وهو يصرخ:
مات إذن
عمر بن الخطاب !!
راح يبكي
ويكررها: مات عمر بن الخطاب !!
دفع
صغيري باب غرفتي ودخل .. صمتت أمه ولم تكمل الحكاية .. لم أكن محتاجاً لأن تكملها
.. فقد انتهت.
توجه
صغيري نحوي يجرُّ قدميه جراً وفي عينيه نظرة عتاب وقال:
مات عمر بن
الخطاب؟؟
رفعتُه
بيدَيَّ حتى إذا صار وجهه قبالة وجهي رسمتُ على شفتيَّ ابتسامة وقلتُ له:
أمك حامل
.. ستلد بعد شهرين .. ستلد عمر !!
صاح
فرحاً: عمر بن الخطاب
قلتُ له:
نعم .. نعم ستلد "عمر"
ضحك
بصوتٍ عالٍ وارتمى في حضني وهو يكرر:
عمر بن
الخطاب .. عمر بن الخطاب !!
حبستُ
دموعي وأنا أترحم على عمر بن الخطاب